الليالي تنتمي إلى الوحوش: فيلم يجسد الرعب النفسي والرمزية الفانتازية في مواجهة الألم البشري
يُعد فيلم The Nights Belong to Monsters أو Las Noches Son de los Monstruos أحد أبرز الأعمال السينمائية الأرجنتينية الحديثة التي مزجت ببراعة بين الدراما النفسية والفانتازيا الرمزية لطرح قضايا اجتماعية وإنسانية حساسة. أُنتج الفيلم عام 2021 من طرف شركتي “Rispo Films” و”Tieless Media”، وأُخرج بأسلوب بصري وتجريبي لافت يعكس ثنائية القوة والهشاشة في مواجهة العنف والتحرش والنبذ الاجتماعي، من خلال قصة مراهقة تبحث عن الخلاص في عالم لا يرحم.
تبلغ مدة الفيلم 96 دقيقة، ويجمع بين عدد من الأسماء البارزة في السينما اللاتينية، منهم “لو غراسو” (Lu Grasso) في دور البطولة، و”إستيبان لاموث” (Esteban Lamothe)، و”جازمين ستيوارت” (Jazmín Stuart)، و”غوستافو غارزون” (Gustavo Garzón)، إلى جانب كوكبة من الوجوه الجديدة التي قدمت أداءً لافتًا ضمن عالم الفيلم المتوتر.
الحبكة: تراجيديا نفسية مغلفة بالفانتازيا الرمزية
تدور أحداث الفيلم حول فتاة مراهقة تدعى “سول” (Sol)، تبلغ من العمر 17 عامًا، تضطر إلى الانتقال مع والدتها إلى بلدة جديدة لتعيش مع “غونزالو”، حبيب والدتها الحالي. ما يبدو بداية جديدة لعائلة معاد تشكيلها، يتحول بسرعة إلى كابوس خانق، حيث تواجه سول منذ وصولها سلسلة من التحديات النفسية والاعتداءات الاجتماعية التي تهدد كيانها الشخصي والعاطفي.
تعاني سول من التنمر المدرسي، والتجاهل الاجتماعي، والأخطر من ذلك كله، من التحرش والاستغلال من قبل غونزالو نفسه. وتتعامل الكاميرا مع هذه الأحداث بتصوير رمزي بعيد عن المباشرة، مما يجعل من كل مشهد فرصة لتأمل الألم والضعف والقوة الداخلية في آنٍ واحد.
في خضم هذا الواقع القاسي، تجد سول عزاءً غامضًا ومفاجئًا في لقائها بكائن غريب: كلبة ضخمة، ذات طابع خارق، تتبعها وتظهر لحمايتها في كل مرة تواجه فيها تهديدًا. لا نعلم من أين جاءت الكلبة، ولا هل هي حقيقية أم تجسيد لجزء من روح سول، لكن وجودها يفرض تحولاً جوهريًا في مجرى الأحداث، ويتحول الفيلم من سرد واقعي إلى عمل شبه أسطوري يعكس معاني الانتقام والعدالة والمقاومة الذاتية.
الرمز والرمزية في السرد البصري
لا يعتمد الفيلم على الأسلوب السردي التقليدي، بل يتخذ طابعًا تجريبيًا يستخدم العناصر الرمزية والمجازات البصرية لبناء تجربة نفسية داخلية تعكس الواقع المضطرب لسول. الكلبة، والتي يمكن تفسيرها بأكثر من طريقة، قد ترمز إلى قوة داخلية نائمة لدى الفتاة، أو إلى طاقة أنثوية خارقة تتجلى عندما تصل حدود المعاناة إلى أقصاها.
هذا الكائن الغامض لا يتكلم، ولا يحمل اسمًا، لكنه يتدخل في كل لحظة حاسمة، لينقذ سول من خطر محتوم. يهاجم أعداءها، ويتعقب من يهددها، ويبدو أنه لا يظهر إلا في اللحظات التي تفقد فيها سول السيطرة على زمام حياتها. بهذا المعنى، يُمكن النظر إلى الكلبة كامتداد غريزي لما يُعرف في التحليل النفسي بـ”الهو”، أي القوة الغريزية غير المدركة التي تتحرك في دواخل الإنسان وتدافع عن كيانه عندما تنهار كل أنظمة الدفاع الأخرى.
بناء الشخصيات وتحولاتها النفسية
يُركز الفيلم بشكل خاص على رحلة سول الداخلية، ونموها من فتاة خائفة مرتبكة إلى شابة تكتشف مصادر غير متوقعة للقوة والحماية. ما تمر به من أزمات نفسية واجتماعية وعاطفية يجعل منها شخصية متعددة الأبعاد، تعكس شريحة كبيرة من المراهقات في مجتمعات مغلقة لا تتقبل الاختلاف ولا تحمي الضعفاء.
أما غونزالو، فيُجسد بمهارة صورة “الوحش البشري”، ذلك النموذج الذكوري المعتدي المتخفي وراء قناع العائلة. لا يظهر عنفه في العلن، لكنه يتحكم في المنزل بسلطة خفية، ويمارس اضطهاده بهدوء خانق. المدرسة من جانبها لا تقدم بيئة آمنة، بل تزيد من عزل سول، حيث تُعامل على أنها دخيلة في مجتمع صغير ومتقوقع.
التحولات التي تمر بها سول لا تنبع من دعم خارجي، بل من تجاربها الذاتية، ومن تفاعلها العميق مع الكلبة، التي تعيد لها الثقة بقيمتها الشخصية، وتساعدها على كسر دائرة الصمت والمعاناة.
الجوانب الفنية والإخراجية
استخدم المخرج عناصر التصوير السينمائي بشكل متميز لنقل التوتر النفسي، عبر لقطات ضيقة ومظلمة أحيانًا، وإضاءة باردة توحي بالعزلة والضيق، وأخرى دافئة تشير إلى لحظات الأمل المؤقتة. الموسيقى التصويرية أيضًا تلعب دورًا محوريًا، حيث تتسلل إلى المشاهد بصوت خافت غالبًا، لكنه ينفجر في اللحظات التي تظهر فيها الكلبة، مما يزيد من تأثيرها السردي والرمزي.
يتميز الفيلم بلغة بصرية قوية، تدمج بين الواقعية القاسية والرمزية الفانتازية، دون أن تسقط في الميلودراما أو التفسير المباشر. كل مشهد يُبنى بتدرج نفسي دقيق، وكل تفصيل في حركة الشخصيات أو في البيئة المحيطة بها يحمل دلالة تُغني السرد وتعمّق تجربة المشاهدة.
الجدول التالي يلخص بعض العناصر الرمزية والمقابلات الدلالية في الفيلم:
| العنصر | التفسير الرمزي |
|---|---|
| الكلبة | القوة الداخلية، الغريزة، العدالة غير الرسمية |
| المدينة الجديدة | العزلة، النظام المجتمعي غير المتسامح |
| غونزالو | السلطة الذكورية المسيئة، الوجه الآخر للأبوة |
| المدرسة | نموذج للرفض الجماعي والانغلاق |
| الصمت في الحوار | تعبير عن القمع النفسي وعدم وجود ملاذ آمن |
| الفصول الأربعة في الخلفية | مراحل التحول الداخلي لدى سول |
الطابع النسوي وصوت الضحية
رغم أن الفيلم لا يُقدَّم كعمل نسوي مباشر، إلا أن عمقه في تناول تجربة فتاة مراهقة تتعرض للعنف والتحرش يجعله في صميم الخطاب النسوي المعاصر. لا تُقدَّم سول كضحية في حاجة إلى إنقاذ من الخارج، بل يُصوَّر نضالها الداخلي وصعودها ككائن فاعل يكتشف قوته ويستعملها، حتى وإن كان ذلك في شكلٍ خيالي أو فانتازي.
الفيلم لا يطرح نهاية مثالية أو حلًا سحريًا، بل يبقي الكثير من الأسئلة معلقة، ما يعكس واقع من يعانون في صمت ولا يُمنح لهم الاعتراف أو العدالة بسهولة. إلا أن تمثيل الكلبة كقوة دفاع عن سول يعيد تعريف مفهوم العدالة، ليس كمفهوم قانوني، بل كحالة شعورية داخلية تبرر الانتقام من الظلم.
القيمة السينمائية والاجتماعية للعمل
The Nights Belong to Monsters ليس مجرد فيلم عن مراهقة تتعرض للتنمر والتحرش، بل هو تأمل بصري عميق في الحالة الإنسانية عندما تتجرد من الأمان، وتحاول التماسك على حافة الانهيار. يُمكن اعتباره جزءًا من موجة الأفلام اللاتينية الجديدة التي تستخدم الفانتازيا كأداة لتفكيك الواقع الاجتماعي، وإعادة بنائه رمزيًا.
الفيلم يسلّط الضوء على ظواهر اجتماعية خطيرة مثل العنف الأسري، تحرش الأقارب، العزلة الاجتماعية، والنبذ المدرسي، لكنه يفعل ذلك من خلال رؤية فنية غير مباشرة، تُقدِّم التجربة الفردية على شكل قصة قابلة للتعميم الرمزي.
كما يُعتبر هذا الفيلم مثالًا ناجحًا على كيفية استخدام عناصر الرعب والفانتازيا في خدمة قضايا واقعية، دون الابتعاد عن الجوانب الفنية العالية في السينما من حيث التمثيل، الصورة، الصوت، والمونتاج.
خاتمة تحليلية
في عالم The Nights Belong to Monsters لا يُعد وجود الوحش أمرًا غريبًا، بل الغرابة تكمن في أن الوحش الحقيقي غالبًا ما يكون بشريًا، مختبئًا خلف واجهات المجتمع والأسرة والتعليم. وفي هذا السياق، تتحول الوحوش إلى حلفاء، والكائنات غير العاقلة إلى حماة للعدالة العاطفية، في عالم تغيب فيه العدالة القانونية والاجتماعية.
الفيلم دعوة للتأمل في الصمت الذي يخيم على ضحايا العنف، وفي السبل النفسية والرمزية التي يمكن أن تمنحهم صوتًا وحماية. ومن خلال تصويره القاسي والحالم في الوقت ذاته، يقدم الفيلم عملًا فنيًا متكاملًا ينتمي بجدارة إلى سينما الرعب النفسي الرمزي، التي لا تسعى فقط إلى إخافة المتلقي، بل إلى إيقاظ وعيه.
المراجع:
-
Página Oficial del INCAA – Instituto Nacional de Cine y Artes Audiovisuales.
-
Revista “Otros Cines” – Crítica de “Las noches son de los monstruos”.
